كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: أَصْحَابُ هَذَا الْقول أَرَادُوا الْمُطَابَقَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِقوله: {مَا عَبَدْتُمْ} مَا أُرِيدَ بِقوله: {مَا أَعْبُدُ} فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ الْمَاضِي كَانَ التَّقْدِيرُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ: لَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْتُمْ فِي الْمَاضِي. فَيَكُونُ قَدْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِبَادَةَ مَا عَبَدُوهُ فِي الْمَاضِي دُونَ مَا يَعْبُدُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أَيْ فِي الْمَاضِي فَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِمَا يَعْبُدُونَ الْحَالُ أَوْ الِاسْتِقْبَالُ إنَّمَا نَفَى عِبَادَةَ مَا عَبَدُوهُ فِي الْمَاضِي. وَهَذَا أَنْقَصُ لِمَعْنَى الْآيَةِ. وَكَيْفَ يَتَبَرَّأُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ عِبَادَةِ مَا عَبَدُوهُ فِي الْمَاضِي فَقَطْ؟ وَكَذَلِكَ هُمْ؟
وَإِنْ قِيلَ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالِانْتِقال عَنْ الْكُفْرِ فَهُوَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَا يَعْبُدُ مَا عَبَدُوهُ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَا يُقال لِهَؤُلَاءِ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْت فِي الْمَاضِي بَلْ قَدْ يَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا انْتَقَلُوا رَبَّهُ الَّذِي عَبَدَهُ فِيمَا مَضَى. وَإِنْ قِيلَ: قول هَؤُلَاءِ هُوَ الْقول الثَّانِي لَا أَعْبُدُ فِي الْحَالِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْحَالِ وَلَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قِيلَ: وَلَفْظُ الْآيَةِ {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} لَيْسَ لَفْظُهَا: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا تَعْبُدُونَ}. فَقوله: {مَا عَبَدْتُمْ} إنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي الَّذِي أَرَادَهُ هَؤُلَاءِ فَسَدَ الْمَعْنَى وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُضَارِعَ بِمَعْنَى الْمَاضِي فِي قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فَإِنَّ الْمَاضِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ. فَإِذَا كَانَ الْمُضَارِعُ مُطَابِقًا لَهُ بَقِيَ مُضَارِعًا لَمْ يُنْقَلْ إلَى الْمَاضِي فَيَكُونُ عَكْسَ الْمَقْصُودِ. وَالْقول الرَّابِعُ الَّذِي ذَكَرَهُ قول مَنْ جَعَلَ (ما) مَصْدَرِيَّةً فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُخْرَى. وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا جُعِلَتْ فِي الْجُمَلِ كُلِّهَا مَصْدَرِيَّةً كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ (ما) الْمَصْدَرِيَّةُ حَاصِلٌ بِقوله (ما). فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِنْ أَعْبُدُ) بَلْ قال: {مَا أَعْبُدُ}.
وَلَفْظُ (ما) يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِخِلَافِ (من). فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعَيْنِ كَقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أَيْ الطَّيِّبَ {وَالسَّمَاءِ وَمَا بناها} أَيْ وَبَانِيهَا. وَنَظِيرُهُ قوله: {إذْ قال لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي). وَهَذَا نَظِيرُ قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} سَوَاءٌ. فَالْمَعْنَى: لَا أَعْبُدُ مَعْبُودَكُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَعْبُودِي. فَقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يَتَنَاوَلُ شِرْكَهُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةِ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ. فَإِذَا أَشْرَكُوا بِهِ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ وَإِنْ دَعَوْهُ وَصَلَّوْا لَهُ. وَأَيْضًا فَمَا عَبَدُوا مَا يَعْبُدُهُ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ مَعْبُودٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ. بَلْ هَذَا يَتَنَاوَلُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَيَتَنَاوَلُ الرَّبُّ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ فَمَا عَبَدَ مَا يَعْبُدُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأَيْضًا فَالشَّرَائِعُ قَدْ تتنَوَّعُ فِي الْعِبَادَاتِ فَيَكُونُ الْمَعْبُودُ واحدًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعِبَادَةُ مِثْلَ الْعِبَادَةِ. وَهَؤُلَاءِ لَا يُتَبَرَّأُ مِنْهُمْ. فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ.
مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَكِنَّ عِبَادَتَهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ. فَلَوْ قال: لَا أَعْبُدُ عِبَادَتكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ عِبَادَتِي فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ تُخَالِفُ صُورَتُهَا صُورَةَ عِبَادَتِهِ. وَإِنَّمَا الْبَرَاءَةُ مِنْ الْمَعْبُودِ وَعِبَادَتِهِ.
فَصْلٌ:
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقول: القرآن تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وَهُوَ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ عِلْمٌ أَوْ حِكْمَةٌ أَوْ خُطْبَةٌ أَوْ قَصِيدَةٌ أَوْ مُصَنَّفٌ فَهَذَّبَ أَلْفَاظَ ذَلِكَ وَأَتَى فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّغَايُرِ لَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى سُدًى. فَكَيْفَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَحْكَمِ الحاكمين لاسيما وَقَدْ قال فِيهِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}. فَنَقول: الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ هُوَ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الزَّمَنَ الدَّائِمَ سِوَى الْمَاضِي فَيَعُمُّ الْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ كَمَا قال سِيبَوَيْهِ: وَبَنُوهُ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَلِمَا هُوَ دَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ وَلِمَا لَمْ يَأْتِ بِمَعْنَى الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَفِعْلِ الْأمر. فَجُعِلَ الْمُضَارِعُ لِمَا هُوَ مِنْ الزَّمَانِ دَائِمًا لَمْ يَنْقَطِعْ وَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ. فَقوله: {لَا أَعْبُدُ} يَتَنَاوَلُ نَفْيَ عِبَادَتِهِ لِمَعْبُودِهِمْ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ وَالزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقوله: {مَا تَعْبُدُونَ} يَتَنَاوَلُ مَا يَعْبُدُونَهُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ كِلَاهُمَا مُضَارِعٌ.
وقال فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ نَفْسِهِ {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}. فَلَمْ يَقُلْ (لَا أَعْبُدُ) بَلْ قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}. وَلَمْ يَقُلْ (مَا تَعْبُدُونَ) بَلْ قال: {مَا عَبَدْتُمْ}. فَاللَّفْظُ فِي فِعْلِهِ وَفِعْلِهِمْ مُغَايِرٌ لِلَّفْظِ فِي الْجُمْلَةِ الأولى. وَالنَّفْيُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَعَمُّ مِنْ النَّفْيِ بِالأولى. فَإِنَّهُ قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} بِصِيغَةِ الْمَاضِي. فَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَا عَبَدُوهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً شَتَّى. وَلَيْسَ مَعْبُودُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُوَ الْمَعْبُودَ فِي الْوَقْتِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ لَهَا مَعْبُودٌ سِوَى مَعْبُودِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى. فَقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ مَا عَبَدُوهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ كَمَا تَبَرَّأَ أَوَّلًا مِمَّا عَبَدُوهُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. فَتَضَمَّنَتْ الْجُمْلَتَانِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ مَاضٍ وَحَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ. وَقوله أَوَّلًا: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لَا يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ. وَقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ} اسْمُ فَاعِلٍ قَدْ عَمِلَ عَمَلَ الْفِعْلِ لَيْسَ مُضَافًا فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا. لَكِنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَالنَّفْيُ بِمَا بَعْدَ الْفِعْلِ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى كَمَا تَقول: مَا أَفْعَلُ هَذَا وَمَا أَنَا بِفَاعِلِهِ. وَقولك (مَا هُوَ بِفَاعِلِ هَذَا أَبَدًا) أَبْلَغُ مِنْ قولك (مَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا). فَإِنَّهُ نَفَى عَنْ الذَّاتِ صُدُورَ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهَا بِخِلَافِ قولك (مَا يَفْعَلُ هَذَا) فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي إمْكَانَهُ وَجَوَازَهُ مِنْهُ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ؛ بِخِلَافِ قوله (مَا هُوَ فَاعِلًا وَمَا هُوَ بِفَاعِلِ) كَمَا فِي قوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وَقوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وَقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ}، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أحد إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. وَلَا يُقال: الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تَرْكُ الثُّبُوتِ وَنَفْيُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْعَارِضِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ نَفْيٌ لِكَوْنِهَا عَمِلَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ. لَكِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اتِّصَافِ الذَّاتِ بِهَذَا فَنَفَتْ عَنْ الذَّاتِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا هَذَا الْفِعْلُ تَنْزِيهًا لِلذَّاتِ وَنَفْيًا لِقَبُولِهَا لِذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ نَفْيُ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالثَّانِي نَفْيُ قَبُولِهِ فِي الْمَاضِي مَعَ الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ. فَقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أَيْ نَفْسِي لَا تَقْبَلُ وَلَا يَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَعْبُدَ مَا عَبَدْتُمُوهُ قَطُّ وَلَوْ كُنْتُمْ عَبَدْتُمُوهُ فِي الْمَاضِي فَقَطْ. فَأَيُّ مَعْبُودٍ عَبَدْتُمُوهُ فِي وَقْتٍ فَأَنَا لَا أَقْبَلُ أَنْ أَعْبُدَهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ. فَفِي هَذَا مِنْ عُمُومِ عِبَادَتِهِمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَمِنْ قُوَّةِ بَرَاءَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ مَا لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الأولى. تِلْكَ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ غَيْرِ الْمَاضِي وَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ إمْكَانِهِ وَقَبُولِهِ لِمَا كَانَ مَعْبُودًا لَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ الْمَاضِي فَقَطْ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ فَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي وَلَا يَسُوغُ لِي أَنْ أَعْبُدَهُ أَبَدًا. وَلَكِنْ لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَرَاءَتُهُ هُوَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ يُؤْمَرُ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ قَبْلَ قراءتها.
فَهُوَ يَتَبَرَّأُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ مِمَّا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَيْ زَمَانٍ كَانَ وَيَنْفِي جَوَازَ عِبَادَتِهِ لِمَعْبُودِهِمْ وَيُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ وَلَا يَصْلُحُ وَلَا يَسُوغُ. فَهُوَ يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَوُقُوعًا. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقال إلَّا فِيمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْأَفْعَالِ كَمَنْ دُعِيَ إلَى ظُلْمٍ أَوْ فَاحِشَةٍ فقال: أَنَا أَفْعَلُ هَذَا؟ مَا أَنَا بِفَاعِلِ هَذَا أَبَدًا. فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قوله (لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا). وَهَذَا كَقوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}. فَهُوَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْفِعْلِ بُغْضًا فِيهِ وَكَرَاهَةً لَهُ بِخِلَافِ قوله (لَا أَفْعَلُ). فَقَدْ يَتْرُكُهُ الإنسان وَهُوَ يُحِبُّهُ لِغَرَضِ آخَرَ. فَإِذَا قال (مَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) دَلَّ عَلَى الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْمَقْتِ لِمَعْبُودِهِمْ وَلِعِبَادَتِهِمْ إيَّاه. وَهَذِهِ هِيَ الْبَرَاءَةُ. وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ الْوِلَايَةِ فَيُقال: تَوَلَّ فُلَانًا وَتَبَرَّأَ مِنْ فُلَانٍ. كَمَا قال تعالى: {إذْ قالوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَأَمَّا قوله عَنْ الْكُفَّارِ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فَهُوَ خِطَابٌ لِجِنْسِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَسْلَمُوا فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا كُفَّارًا. فَإِذَا أَسْلَمُوا لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ ذَلِكَ. فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ.
وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ فَهُمْ كَافِرُونَ فِي الْبَاطِنِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ الْخِطَابُ. وَهَذَا كَمَا يُقال: قُلْ يَا أَيُّهَا الْمُحَارِبُونَ وَالْمُخَاصِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ وَالْمُعَادُونَ. فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَمَا دَامَ الْكَافِرُ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُتَظَاهِرًا أَوْ غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بِهِ كَالْيَهُودِ. فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ إنَّمَا تَكُونُ بِمَا شَرَعَ وَأمر. وَهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ فَتِلْكَ الْأَعْمَالُ الْمُبَدَّلَةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا هُوَ يَكْرَهُهَا وَيُبْغِضُهَا وَينهى عَنْهَا فَلَيْسَتْ عِبَادَةً. فَكُلُّ كَافِرٍ بِمُحَمَّدِ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ مُحَمَّدٌ مَا دَامَ كَافِرًا. وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ. فَهُوَ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَعْبُدُ مَعْبُودَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا فِي الْحَاضِرِ وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ (وَلَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ) بَلْ ذَكَرَ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ نَفْسَ نُفُوسِكُمْ الْخَبِيثَةِ الْكَافِرَةِ بَرِيئَةٌ مِنْ عِبَادَةِ إلَهِ مُحَمَّدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْبُدَهُ مَا دَامَتْ كَافِرَةً. إذْ لَا تَكُونُ عَابِدَتَهُ إلَّا بِأَنْ تَعْبُدَهُ وَحْدَهُ بِمَا أمر بِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ. وَمَنْ كَانَ كَافِرًا بِمُحَمَّدِ لَا يَكُونُ عَمَلُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ قَطُّ. وَتَبْرِئَتُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ جَاءَتْ بلفظ واحد بِجُمْلَةِ اسْمِيَّةٍ تَقْتَضِي بَرَاءَةَ ذَوَاتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ. وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقول فِيهِمْ (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت) كَمَا قال فِي نَفْسِهِ {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} لِوَجْهَيْنِ..
أحدهما: أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِقراءة هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ غَيْرَ اللَّهِ. فَلَوْ قال (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت) لَقالوا: بَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ مَا كُنْت تَعْبُدُ لَمَّا كُنْت مُشْرِكًا بِخِلَافِ مَا إذَا قال (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ). وَلَمْ يَقُلْ (مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ) إذْ نَفْسُهُ قَدْ لَا تَكُونُ عَابِدَةً لَهُ مُطْلَقًا. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ الواحد مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ مَا يَعْبُدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَذْمُومًا بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُخَاطِبُ بِهَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ حِينَ يَقولها مَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ. فَهُوَ يَقول لِلْكُفَّارِ (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُهُ الْآنَ). وَذَكَرَ النَّفْيَ عَنْ الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ لِتَقَارُبِ كُلُّ جُمْلَةٍ جُمْلَةً. فَلَمَّا قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فَنَفَى الْفِعْلَ قال: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
ثُمَّ لَمَّا زَادَ النَّفْيُ بِنَفْيِ جَوَازِ ذَلِكَ وَبَرَاءَةِ النَّفْسِ مِنْهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لَهُ وَقُبْحِهِ وَنَفَى أَنْ يَعْبُدَ شَيْئًا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ قال: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} بَلْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا أَعْبُدُهُ. فَلَيْسَ لِبَرَاءَتِي وَكَمَالِ بَرَاءَتِي وَبُعْدِي مِنْ مَعْبُودِكُمْ وَكَمَالِ قُرْبِي إلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِي لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يَكُونُ لَكُمْ نَصِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. بَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ لَا فِي الْحَالِ الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي تَبِرِّيهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ الأولى لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَبْرِئَةٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الثَّانِيَةِ. فَبَرَّأَهُمْ مِنْ مَعْبُودِهِ حِينَ الْبَرَاءَةِ الأولى الْخَاصَّةِ وَحِينَ الْبَرَاءَةِ الثَّانِيَةِ الْعَامَّةِ الْقَاطِعَةِ. وَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ بَلْ هُمْ فِيهِمَا لَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ. فَلَمْ يَكُنْ فِي تَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا غُيِّرَتْ الْعِبَارَةُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْمُؤْمِنِينَ لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَالإنسان يَقْوَى يَقِينُهُ وَإِخْلَاصُهُ وَتَوْحِيدُهُ وَبَرَاءَتُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُهُ لِمَا يَعْبُدُونَ وَلِعِبَادَتِهِمْ فَرَفَعَ دَرَجَتَهُ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَقول لِلْكُفَّارِ: (لَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ) فِي هَذِهِ الْحَالِ سَوَاءٌ كَانُوا هُمْ قَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَبُغْضُهُمْ لَهُ أَوْ لَمْ يَزِدْ.
فَالْمَقْصُودُ بِالسُّورَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ بُرَاءُ مِنْهُ. وَتَبِرِّيهِ مِنْهُمْ إنْشَاءٌ يُنْشِئُهُ كَمَا يُنْشِئُ الْمُتَكَلِّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَيَقْوَى وَيَضْعُفُ. وَأَمَّا هُمْ فَهُوَ يُخْبِرُ بِبَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُنْشِئُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ. فَخِطَابُ الْمُؤْمِنِ عَنْ حَالِهِمْ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ وَالْخَبَرُ مُطَابِقٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُ خَبَرِهِ عَنْهُمْ إذَا كَانُوا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِهِ لِلَّهِ لَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ. فَهَذَا اللَّفْظُ الْخَبَرِيُّ مُطَابِقٌ لِحَالِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ زَادُوا أَوْ نَقَصُوا. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُنْشِئَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ. بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِدُعَائِهِمْ إلَى الْإِيمَانِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْقِصَهُمْ فِي خَبَرِهِ عَمَّا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ. فَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِمْ زِيَادَةٌ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصٌ. فَلَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ الْخَبَرِ فِي الْحَالَيْنِ بلفظ واحد. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُنْشِئَ قُوَّةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ وَعِبَادَتَهُ وَبَرَاءَتَهُ مِنْهُ وَمِنْ عَابِدِيهِ. وَقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا خَبَرًا فَفِيهَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَسَائِرِ أَلْفَاظٍ الْإِنْشَاءَاتِ كَقوله (أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وَقوله: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}.
وَقوله: {إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} فَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ لَهَا يُنْشِئُهُ الْمُؤْمِنُ فِي نَفْسِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ وَهِيَ الْمُقَشْقَشَةُ الَّتِي تُقَشْقِشُ مِنْ الشِّرْكِ كَمَا يُقَشْقَشُ الْمَرِيضُ مِنْ الْمَرَضِ. فَإِنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ أَعْظَمُ أمراضِ الْقُلُوبِ. فَأمر الْمُؤْمِنَ بِقول يُوجِبُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَكُلَّمَا قالهُ ازْدَادَ بَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ وَقَلْبُهُ شِفَاءً مِنْ الْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ الْكَفَرَةُ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَزْدَادُونَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إلَّا كُفْرًا. فَالْجُمَلُ الْخَبَرِيَّةُ تُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَالْإِنْشَاءُ يُوجِبُ أحداثَ مَا لَمْ يَكُنْ. فَقِيلَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أَيْ أَنَا مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذَا تَارِكٌ لَهُ ثُمَّ قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أَيْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذَا مُتَنَزِّهٌ عَنْهُ؛ مُزَكٍّ لِنَفْسِي مِنْهُ فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مَا تنجس بِهِ النَّفْسُ وَأَعْظَمُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِهَا تَزْكِيَتُهَا مِنْهُ وَتَطْهِيرُهَا مِنْهُ. فَمَا أَنَا عَابِدٌ قَطُّ مَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بَلْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْبُدُ. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ مَأْمُورٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَطَالِبٌ زِيَادَةَ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ. وَأَنَا أُخْبِرُ عَنْكُمْ بِأَنَّكُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْبُدُ إمَّا لِكَوْنِكُمْ تَأمرونَ بِذَلِكَ وَإِمَّا لِكَوْنِكُمْ تَعْبُدُونَهُ فَلَا أُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّهُ كَذِبٌ. وَإِمَّا لِكَوْنِكُمْ تَجْتَهِدُونَ فِي الْبَرَاءَةِ وَتُبَالِغُونَ فِيهَا فَبِهَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُكُمْ.
وَأَنَا لَا يَسُوغُ لِي أَنْ أَذْكُرَ مَا يُزِيلُ بَرَاءَتَكُمْ وَلَا أُكْذِبُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّكُمْ تَنْقُصُونَ مِنْهَا إذَا تَبَرَّأَتْ بَلْ التَّبَرِّي مِنْهَا دَاعٍ وَبَاعِثٌ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي سَبَبِ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ لاسيما فِي حَقِّ الرَّسُولِ الَّذِي خُوطِبَ أَوَّلًا. بِقوله: {قُلْ}. فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ فِي سَبَبِ بَرَاءَتِي مِنْ الشِّرْكِ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارِي بِهِ عَدَاوَتَكُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاكُمْ وَاحْتِمَالِي هَذِهِ الْمَكَارِهَ الْعَظِيمَةَ. بَعْدَ مَا كُنْتُمْ تُعَظِّمُونِي غَايَةَ التَّعْظِيمِ وَتَصِفُونِي بِالْأَمَانَةِ وَتُسَمُّونِي (الأمين) وَتُفَضِّلُونِي عَلَى غَيْرِي وَنَسَبِي فِيكُمْ أَفْضَلُ نَسَبٍ وَتَعْرِفُونَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيَّ مِنْ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمَقَاصِدِ وَطَلَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَأَنِّي لَا أَخْتَارُ لِأحد مِنْكُمْ سُوءًا وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَ أحدا بِشَرِّ. فَاخْتِيَارِي لِلْبَرَاءَةِ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَإِظْهَارِي لِسَبِّهِمْ وَشَتْمِهِمْ. أَهْوَ سُدًى لَيْسَ لَهُ مُوجِبٌ أُوجِبُهُ؟ فَانْظُرُوا فِي ذَلِكَ. فَفِي السُّورَةِ دُعَاءٌ وَبَعْثٌ لِلْكُفَّارِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ. وَمَعَانِيهَا كَثِيرَةٌ شَرِيفَةٌ يَطُولُ وَصْفُهَا.